تابعونا

معضلة الشر في الأفلام السينيمائية .. بقلم محمد حلاوة

27 نوفمبر، 2021 1.2 ألف

من أسبوع تقريبا كانت الذكرى الخمسين لواحد من أهم الأفلام فى تاريخ السينما العالمية، فيلم البرتقالة الآلية (clockwork orange) وكمان كانت ذكرى ميلاد الكاتب لويس ستيفنسون صاحب أعمال مغامرة ومهمة زي جزيرة الكنز، لكن طبعا العمل الملهم والأشهر، رواية دكتور جايكل وماستر هايد، أهم أعماله وأفضلها تأثيرا، الرواية اللي كلنا درسنا قصتها واحنا صغيرين.

بالمناسبة السعيدة دي اللي مش بتتكرر كتير، كنت بفكر فى ربط لاحظته ممكن يكون قائم على صناعة الشر من منظور الارتداد بين الهويات الشريرة اللي هنا، هايد فى الرواية وشخصية أليس فى الفيلم، بوصف الإنسان عندما يتم إخضاعه لنظام صارم.

فى رأيي فى تشابه كبير بين شخصية أليس وشخصية دكتور جايكل فى تحوله لـ ماستر هايد، لكن الفرق الجوهري بين الشخصيتين هو تقريبا نفس الفرق بين Hannibal نسخة الأفلام و Hannibal المسلسل، الشر الصافي اللي تكاد تكون دوافعه انتقامية بحتة بسبب حادث قديم، والشر الآخر المحكم بعوامل تانية فلسفية غرضها الاستمتاع بالتحكم فى عقول البشر.

فى الرواية أو القصة الكاتب بيبدأ يعرفنا على دكتور جايكل، الطبيب ذو السمعة الطيبة والمكانة المرموقة الذي يحظى باحترام الجميع، وينحدر من أسرة أرستقراطية نبيلة، وينعم بحياة هادئة ومستقرة يتمناها أي شخص تقريبا.

فى الفصول الأولى نتعرف على الطبيب وأفكاره اللاذعة عن طريق صديقه المحامي المقرب، الذي يتسلم جوابا، لا يعرف مدى صحته بشأن تسليم الإرث لشخص يدعي هايد فى حالة اختفاء الدكتور جايكل المحتملة، أو موته، من هنا وبعد ذلك نعرف أيضا مدى خلاف جايكل مع صديقهم الآخر، الطبيب مثله، بشأن تجربة ستغير كثيرا فى العالم الذي نعيشه.

غير ذلك بدا أن كل شئ هادئا فى مكانه، وإن كنا ميزنا لغزا، لكننا لا نعرف خطورته أو حقيقة خيوطه المتشابكة، نظن وحسب أن الطبيب على وشك تسجيل براءة اكتشاف، أو نيل درجة علمية ما.

فى الفصول التالية بدأت المدينة سرد وتسجيل وقائع شنيعة فى الحدوث، وتربطها بمواصفات معينة لرجل يدعى هايد، يختفي ويظهر من العدم، لا أحد يعرف له أصل أو نشأة، ولا حتى عنوان، يتبخر تماما بعد وقوع الجرائم وهو المشتبه الأول فيها، لكن الوصف كان واحدا، طبقا لسجل الشرطة والشهود، رجل كريه، بغيض، لا تستطيع أن تقف معه لثواني معدودة ولا تشعر بشئ.

مع توالي الأحداث وحتى قرب النهاية، يجد المحامي طريقة تساعده فى كشف خيوط اللغز، بعد ما يتتبع فى الأساس عنوان هايد، ويسعى لمقارنة الخط المكتوب فى المراسيل الخاصة بالطبيب والأخرى الخاصة بالشرير.

نعرف من خلال جواب آخر، أن الشخصيتين واحد، دكتور جايكل وماستر هايد، بفضل الاكتشاف الذي كان يؤرق جايكل لسنوات، وجعله يبدو لأصدقائه والمقربين أنه شخص آخر غير الذي عرفوه.

لحد هنا، بتعرف عن الاختراع وسر تحضيره وسببه فى حياة جايكل الازدواجية، عن طريق الخطاب اللي أوصى للمحامي بتاعه أن محدش يقرأه غيره، واللى وراه الحبكة أو القصة لأنه كان موجه فى الأساس للدكتور التاني صديق جايكل، لكن وصل فى النهاية للمحامي عن طريق الصدفة بعد مقتل الأول.

ماستر هايد كان شر صافي من غير سبب، ومفيش عنده ذرة إحساس واحدة تخليه يتعاطف مع أي شخص كان، ودا اللي أوضحه الطبيب فى الخطاب عشان يكشف السر أو يبرر لوجود هايد من الأساس فى الفصل الأخير. الطبيب حكى أنه من البداية خالص من وهو لسه طفل، اضطر لأنه يعيش حياة مزدوجة بسبب صراع نشأ فى الطفولة بين نفسه كطفل وبين عائلته اللي عظمت فى عينه قيم معينة ممكن عادي تنتصر لنفسها عشان ترسخ أكتر اعتبار أو أهمية عن الطبقة اللي جاية منها على حساب رغباتك ومشاعرك الفردية، انت الدكتور جايكل ستكون ذا شأن عظيم، ينبغي عليك إذا التصرف وفق تلك المعطيات التي تؤهلك يوما ما إلى مكانة مرموقة.
لا تفعل كذا، فهذا ليس من آداب اللياقة، وغيرها من السلوكيات المجدولة اللي حبسته طول الوقت أمامهم فى مثالية مقنعرة وفراغ، ترك أقسى صدع داخله بين طبيعته العادية ككل الناس، وصوت التربية وهو أن يكون لائق طول الوقت وتصرفاته تدل على أنه فعلا منتمي قلبا وقالبا لهذه الطبقة.

اللي فاكر فيلم تايتنك، ركيزة الشخصية الأساسية كانت مبنية تقريبا فى إطار نفس الفكرة، روز بطلة الفيلم كانت محطمة بقوة الضغوط دي، لدرجة دفعتها للتفكير فى الانتحار، بسبب انها مثقلة بالهموم اللي مينفعش تعبر عنها فى مقابل مادي أهم، مقيد بالواجب أو الالتزام، واللي بيحتم عليها الجواز من رجل أعمال ثري مش بتحبه، بس زي ما مامي قالت ان دي فرصتهم الوحيدة لإنقاذ العائلة دي من الديون، فا مش هيحصل حاجة لما تتنازل عن سعادتها وتتصرف بعقلانية، وعشان امها صفرة وذكية ومن النوع أصلا اللي ميفكرش الا فى نفسه وبس، حاولت تقنعها أن دا مصير مشترك هي اللي هتحدده لما تبطل تفكر فى نفسها لأن الوقت مش مناسب خالص لأي أنانية فردية فى ظل الأزمة المالية اللي بنمر بيها، بطريقة دا الأمر أمرك والشورى بتاعتك يا لمبي.

والنتيجة مشهد الانهيار، بعد تتابع دقيق وعرض مفصل لكل التراكمات دي، قبل وبعد ما تعرف جاك، وبعد كدا تيجي اللحظة المفصلية عشان تقرر هي على انهي جانب، والمشهد دا ذكي وجميل، اعتمد فيه المخرج على حيلة بصرية من أجمل ما يكون فى توصيل الفكرة اللي خلالها تعدل عن قرارها بخصوص الكلام الكبير عن العائلة والتضحيات، وكل شئ، لما كانت قاعدة مع الأم وخطيبها، بتبص على طفلة صغيرة من نفس طبقتها، بتتعلم تفرش المنديل الخاص بالسفرة ازاي، وفى المشهد الأيقونة اللي بعده بتطلع مع جاك عند مقدمة السفينة، فى شكل سماوي حرر المشاهدين نفسهم من أي عبء فى العالم.

للأسباب دي من البداية خالص كانت روز بتقول وهي طالعة على متن المركب مع خطيبها وامها، بتحكي بلسان الراوي وهي كبيرة ” رأيت حياتي بأسرها كما لو أني عشتها، استعراض لا متناهي من الأمسيات الهزلية، حفلات الرقص، تنزه اليخوت، ومباريات البولو، نفس المتملقين، وذات المحادثات التافهة، شعرت أني أقف على شفا الهاوية وما من أحد ليشدني، ليس من أحد يحفل إلى أمري وما من امرئ حتى يلاحظني”.

ودا بالظبط اللي خلى جايكل يسعى لخلاصه ويلجأ للفكرة المجنونة دي اللي تخليه يفصل الجانب الشرير الكامن فيه لشخصية تانية تقدر تعمل أي حاجة من غير لوم أو تأنيب ضمير، ويعيش حياة مزدوجة مستقرة إلى حد قريب قبل ما الوضع يخرج عن السيطرة ويقع تحت وسوسة هايد بأنه يسلم نفسه لشيطانه ويكون تحت طوعه، بسبب حياته نفسها الازدواجية اللي محدش غيره كان يعرف عنها، لأن عمره ما لقى شخص يفهمه بهذا القدر اللي ممكن يدي لنفسه الفرصة عشان يبوح بيها لحد من أصدقائه المقربين.

دكتور جايكل وكذلك روز كانوا أقرب فى البناء للشخصيات المعذبة اللي جواها خوف دفين أو معاناة داخلية، القصة داخل عقولهم ومشاعرهم، عشان نعرف هما إحساسهم بايه ومش عارفين يصرحوا بيه.

القصة دى لما جينا ندرسها كانت مقررة للقراءة داخل شابتر فى كتاب الوزارة على هامش كدا، فكانت مختصرة على قد الفكرة والمغزى من ثنائية الخير والشر، إلا انها برضه تركت أثرا كبيرا فى نفس الواحد، وكانت بمثابة أول محاولة ندرك من خلالها حقيقية أن يحمل الإنسان بداخله الشر بقدر أفعاله الطيبة، لحد ما قريت الرواية كاملة وعرفت ان الموضوع أكبر بكتير.

واتضح لي أمور تانية أعقد وهي مدى تورط الأشخاص الذين يحتاجون دائما إلى تلبية نداء الآخرين عنهم، حاضر، مش عايزين نزعل منك؟ حاضر، مستحيل أن نتوقع منك أي سوء وإلا كنت واحدا آخر لا نعرفه؟ حاضر، مفيش بني آدم فى الدنيا نفذ تصورات الناس عنه إلا وخسر والأدهى أنه يكتشف أنه لم يعش حياته أصلا، زي لما نقول لحد محترم بالعامية كدا طب سيبت ايه لعيال الشوارع؟ دا تقريبا مصدر الشر نفسه اللي الرواية بتتكلم عنه.

نيجي بقى لأسطورة المراهقين من فيلم Clockwork orange الزعيم الجميل الموهوب بالفطرة، أليكس، على العكس تماما من جايكل، يعاني من إهمال والديه، وليس لديه مشكلة فى ذلك طالما مقضيها فى البارات والشوارع، زي كلاب السكك، دا أول جانب عن أليكس، شخصية قيادية، يمكنها فعل أي شئ لتظل متمكنة من فرض السيطرة وسط الرفاق، الذين بدورهم يحتلون مملكة العصابات بفارق أكبر عن العصابات الأخرى، أما الجانب الفوضوي الآخر، من حياته يقبع داخل منزله، الذي يلائم تماما استايل أليكس، وفيما هو محاط بين الموسيقى الصاخبة والتماثيل العارية، التي تغرق فى دمائها كما يتخيلها أليكس عند وصوله الذروة، نكتشف أنها المقطوعة التاسعة لـ بيتهوفن التي تعكس لنا مزاج سادي ورفيع فى تذوق الفن، فى قطعات المونتاج السريعة بين نظرات أليكس وتلك التماثيل التي تبدو شاهقة، نرى مسحة حزن وبريق فى عينيه تعلو بحقد إلى تلك التماثيل شاعرا بأنه كان يجب أن يولد فى تلك العصور، ويتكرر شعوره بذلك مرة أخرى عندما يدخل السجن و يقرأ فى التوراة عن قصص المذابح والاغتصاب.

كدا المفروض الفرق بان، هايد كان عبارة عن جهنم الحمرا، يقدر يدهس طفلة صغيرة تحت عجلات العربية فى شوارع لندن، إنما أليكس بيعمل كدا بدافع التسلية والفضول، وأحيانا العقاب المستحق من وجهة نظره، بطريقة رغم عنفها الصريح تكاد تكون طفولية فى جوهرها، لمجرد أنه يقدر يعمل كدا عشان أقوى ولأن دا ممتع بشكل مريض، زي لما يضرب رجل مسن تافه بيتحسر على الزمن الجميل، أو يستعد مع رفاقه بالتناوب لتنظيم حفل اغتصاب جماعي من أجل بعض المرح، لامرأة شابة فى بيتها على وقع أغنية رومانسية قدام زوجها، وكل شوية يروح ينط قدامه زي القرد ويقف قدام عينه بطريقة مستفزة ومضحكة تحسسه اكتر بالعجز، والمهين أكتر أنه دخل البيت عن طريق قرع الجرس بأسلوب راقي من غير تهجم، كأنه روتين بشري عادي زي عامل تحصيل النور.

الاتنين خضعوا لتجربة غيرت فى سلوكهم جذريا على النقيض، واحد أخضع نفسه لمركب كيميائي كان الهدف منه فصل الخير عن الشر، والتاني بدون إرادته كجزء من برنامج التأهيل الجديد فى السجن، وقع عليه الاختيار بأن يكون أول من يمتثل إلى طريقة العلاج الجديد الذي يتمثل فى تجربة عنيفة أخرى، جعلت منه حمل وديع يصيبه الغثيان بمجرد رؤيته لأي شئ كان يفعله بأريحية فى الماضي، بموجب ارتباط شرطي يحدثه العلاج بين العنف والقئ.

أليكس مع نهاية الفيلم بالحال اللي وصله دا، بيكون فاقد الحاجة اللي بتخلي الإنسان إنسان، وأقرب فعلا لشكل البرتقالة الآلية، التي من المحتمل أن يكون شكلها من الخارج جميل، لكن لا أحد يقبل على تذوقها. ويمكن كان حاله أفضل وهو شرير، كان عايش. زي ما قال والتر وايت
I did it for me i liked it, i was good at it, and i was really i was alive.

الفيلم مقتبس عن رواية بنفس الإسم، وكعادة ستانلي كوبريك مع الأصول أو الوسيط الأدبي اللي اقتبس منه العمل، لم ينل إعجاب الكاتب بسبب حذف المخرج لفصل كامل فى النهاية بجانب تعديلات أخرى، لكن ستانلي كان شخص منظم جدا وكل حاجة عنده قايمة على الدراسة والتوثيق لدرجة تصل إلى الكمال، ونفس الشئ حصل مع ستيفن كينج، ظلت عنده كراهية مستديمة لفيلم البريق أو The shinning، واعتباره دون المستوى بسبب برضه التغييرات اللي أجراها كوبريك على الرواية، لكن فى النهاية أفلام ستانلي كوبريك كلها بتتفوق على الأصل الأدبي تقريبا، وبتاخد وضعها المستحق مع مرور الوقت، الفيلمين دول مصنفين فى المرتبة 64 والمرتبة 111 فى قائمة IMDB لأهم 250 فيلم فى التاريخ. أفلامه كلها فى القايمة اصلا بالجوار من بعض بدرجات متفاوتة.

الفيلم امتنع عرضه فى بعض الدول بسبب مشاهد العنف والجنس، وكوبريك بعدين سحبه بنفسه من السوق، بعد 27 سنة من المحاولات عشان حد يقبل يغامر ويعرضه، بس فى الآخر الفيلم اهو، ودا المهم.

المصادر:

مهندس ميكانيكا بحب الصحافه و الكتابه .. مؤمن بان من حق كل بني ادم انه يعرف الحقيقه ورا الخبر .. رسالتي انك تفهم حقيقه اللي بيحصل عشان لما تقرر رايك تكون فاهم انت بتقرر علي اي اساس

اترك تعليق

بريدك الالكتروني لن ينشر. يجب ملئ الخانات بعلامة *

من فضلك ادخل التعليق!

من فضلك ادخل الأسم!

من فضلك ادخل البريد الالكتروني!من فضلك ادخل بريد الكتروني صحيح!